تساءلت في نفسي : لماذا قال ابراهيم عليه السلام :( و من عصاني فإنك غفور رحيم ) ، وقال عيسى عليه السلام : ( وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فقد يقول قائل أن الأولى بابراهيم عليه السلام أن يقول: (فإنك عزيز حكيم) إذ كيف يقابل المعصية باسمين كريمين يدلان على مغفرته سبحانه ورحمته،
http://vb.tafsir.net/tafsir37431/#.U8gZrfl_v-t
http://vb.tafsir.net/tafsir37431/#.U8gZrfl_v-t
وأن الأولى بعيسى عليه السلام أن يقول: ( فإنك أنت الغفور الرحيم) لأن هذا أنسب لقوله (إن تغفر لهم)؟
والذي يظهر و الله أعلم و أحكم أن السبب في ذلك أن مقالة الخليل عليه السلام كانت في الدنيا و هي دارٌ باب التوبة فيها مفتوح، وأن العاصي بل المشرك قد يمن الله عليه بالتوبة و الإنابة و التوبة كما في الحديث تجب ما قبلها و الإسلام يجب ما قبله، لذا كان الأنسب ختم الكلام بهذين الاسمين الكريمين.
أما مقالة عيسى عليه السلام فالراجح أنها في الآخرة و هي دار جزاء لا عمل و دار حساب لا توبة أو إياب، فكان الأنسب استعمال اسمين يدلان على عزته سبحانه و حكمته إذ كيف يقول "فإنك أنت الغفور الرحيم" و الكلام عن مشركين اتخذوه و أمه إلهين؟
فكان استعمال كل اسمين في موضعهما أنسب.
و الله أعلم و أحكم
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى:" وهذه تعقيباتٌ في مسألة الغُفران والرحمة بعد العصيان؛ فمرّة يعقُبها الحق سبحانه : ( العزيز الحكيم ) المائدة : 118 ومرّة يعقبها : ( الغفور الرحيم ) الزمر : 53 ... وهكذا تأتي العزّة والمغفرة بعد ذِكْر العذاب ؛ فهناك مواقف تُناسِبها العِزّة والحكمة ؛ ومواقف تناسبها المغفرة والرحمة ... " اهـ
يقول صاحب بيان المعاني: "( وَمَنْ عَصانِي) فيها ( فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) به تقدر على هدايته إذا شئت ، وليس في هذه الآية جواز الدعاء للكافرين بالمغفرة والرحمة ، لأنها جارية مجرى الخبر ، أي أن الكافر إذا تاب وأناب فإنك غفور لأمثاله ، رحيم بهم ، أو أنها على حد استغفاره لأبيه قبل أن يعلمه اللّه عدم غفران الشرك ، لعلمه أنه قادر على أن ينقله من الكفر إلى الإيمان ، وعلى هذا قول عيسى بن مريم عليه السلام في الآية 118 من المائدة في (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) إلا أن عيسى ختم كلامه بما لا يدل على المغفرة والرحمة ، لأن لفظ العزيز يدل على العظمة والغلبة ، ولفظ الحكيم يدل على أن ما يفعله اللّه موافق للواقع ، لأن الحكمة تعذيب العاصي وتكريم الطائع ، فبين ختام الآيتين بون شاسع في المعنى" اهــــــ
و أذكر هنا بعض أقوال أهل التفسير في توجيه قول الخليل:" و من عصاني فإنك غفور رحيم"
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:" قيل : قال هذا قبل أن يعرفه الله أن الله لا يغفر أن يشرك به وقيل : غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت وقال مقاتل بن حيان : ( ومن عصاني ) فيما دون الشرك"اهـ
و " قال السدي معناه : ومن عصاني ثم تاب ، وقيل : إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك ، وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم ، يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام ، وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة." نقل هذه الأقوال الإمام الرازي في تفسيره و بين ضعفها من وجوه.
يقول الإمام الألوسي:" وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا إشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في «شرح مسلم» من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وإنما امتنعت في شرعنا .
واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه الآية ، فمنهم من ذهب إلى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك إلى السدي . ومنهم من ذهب إلى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عمل تقتضيه المعادلة . وروى ذلك عن مقاتل . وفي رواية أخرى عنه أنه قال : إن المعنى ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب .9/389.
و عن ابن عباس رضي الله عنه فيما ينسب إليه من التفسير المسمى بتنوير المقباس من تفسير ابن عباس: ( وَمَنْ عَصَانِي ) فخالف ديني ( فَإِنَّكَ غَفُورٌ ) متجاوز لمن تاب منهم أي يتوب عليهم ( رَّحِيمٌ ) لمن مات على التوبةّ"-1/272-.
و أما قول الطنطاوي في تفسيره الموسوم بالتفسير الوسيط:" فالجملة الكريمة تدل على الأدب السامي ، والخلق العالي ، الذي كان يتحلى به إبراهيم - عليه خالسلام - في ماطبته لربه - عزوجل - حيث فوض الأمور إليه دون أن يقطع فيها برأى ، كما تدل على رقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع في العذاب الأليم.
وشبيه بهذه الآية ما حكاه - سبحانه - عن عيسى - عليه السلام - في قوله : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " هذا ، ولا نرى وجها لما ذهب إليه بعض المفسرين ، من أن قول إبراهيم - عليه السلام - « ومن عصاني فإنك غفور رحيم » كان قبل أن يعلم بأن اللّه لا يغفر الشرك ، أو أن المراد بالمعصية هنا مادون الشرك ، أو أن المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك .. وإنما المقصود بها تفويض أمر العصاة إلى اللّه - تعالى - إن شاء نقول : لا نرى وجها لكل ذلك ، لأن الجملة الكريمة ليس المقصود بها الدعاء غفر لهم ورحمهم .."اهـ
قلت في آخر قوله نظر لأن ختم الخليل عليه السلام القول باسمي الغفور الرحيم، فيه فتح باب الأمل و الرجاء و التوبة على العصاة وهذه التوبة لا شك أنها تتضمن مغفرة ذنوبهم.
و الذي يظهر أن الاختلاف في ختم كلام كل من ابرهيم الخليل و عيسى عليهما السلام يرجع إلى اختلاف موقفيهما و موضع قوليهما، فإبراهيم عليه السلام قال ذلك في الدنيا و عيسى عليه السلام قاله في الآخرة، فكان الأنسب ما ختم به قول كل واحد منها، عليه السلام.
منقول من ملتقى أهل التفسير
ناصر عبد الغفور